نقض الصحيفة
ازداد عدد المسلمين، وانضم إليهم عدد من أصحاب القوة والسيطرة، فأصبح من الصعب على المشركين تعذيبهم، ففكروا في تعذيب من نوع آخر، يشمل كل المسلمين قويهم وضعيفهم، بل يشمل كل من يحمي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى ولو لم يدخل في الإسلام، فقرر المشركون أن يقاطعوا بني هاشم ومن معهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، ولا يكلمونهم، ولا يدخلون بيوتهم، وأن يستمروا هكذا حتى يُسلِّموا إليهم محمدًا ليقتلوه أو يتركوا دينهم، وأقسم المشركون على هذا العهد، وكتبوه في صحيفة وعلقوها داخل الكعبة.
وأحكم المشركون الحصار، فاضطر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى الاحتباس في شعب بني هاشم، وكان رجال قريش ينتظرون التجار القادمين إلى مكة ليشتروا منهم الطعام ويمنعوا المسلمين من شرائه، فيظلوا على جوعهم، فهذا أبو لهب يقول لتجار قريش عندما يرى مسلمًا يشترى طعامًا لأولاده: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد؛ حتى لا يدركوا معكم شيئًا، فيزيدون عليهم في السلعة، حتى يرجع المسلم إلى أطفاله، وهم يتألمون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به.
ويذهب التجار إلى أبي لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى تعب المؤمنون ومن معهم من الجوع والعرى، واستمر هذا الحصار على بني هاشم والمسلمين مدة ثلاث سنوات، ولكن المسلمين أثبتوا أنهم أقوى من كل حيل المشركين، فإيمانهم راسخ في قلوبهم لا يزحزحه جوع ولا عطش، حتى وإن اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، فلم ييأسوا، ولم ينفضُّوا من حول نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وشعر بعض المشركين بسوء ما يفعلونه، فقرروا إنهاء هذه المقاطعة الظالمة وأرسل الله تعالى الأرضة (دودة أو حشرة صغيرة تشبه النملة) فأكلت صحيفتهم، ولم تُبْقِ إلا اسم الله تعالى، وأوحى الله إلى نبيه بذلك، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بما حدث للصحيفة، فذهب أبو طالب إلى الكفار وأخبرهم بما أخبره محمد صلى الله عليه وسلم به، فأسرعوا إلى الصحيفة، فوجدوا ما قاله أبو طالب صدقًا، وتقدم من المشركين هشام بن عمرو، وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدى، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فتبرءوا من هذه المعاهدة، وبذلك انتهت المقاطعة بعد ثلاث سنوات من الصبر، والثبات والتحمل.
ومكث النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الله، والمسلمون كل يوم في ازدياد من قريش ومن غيرهم، ولا يتمكن أعداؤهم من الاعتداء عليهم، حتى كانت السنة العاشرة من النبوة توفي فيها عمه أبو طالب الذي كان عضده ونصيره، فعاد كفار قريش إلى الأذى، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وطلب من أشراف هذه الجهة تعضيده بعد أن دعاهم إلى دين الله تعالى، فلم يقبلوا ولم يسلموا بل أغروا سفهاءهم يسبونه ، فعاد إلى مكة وطلب من المطعم بن عدى أن ينصره فأجابه لذلك، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في جوار المطعم، فطاف وصلى ثم انصرف إلى منزله يحفظه الله تعالى من أذى الأعداء.