رابعاً: منهج المحدثين في حقل تطبيقه
يقول تسيهر ومن يقلده:
(( والناقد المسلم يبقى بارداً أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية ( يعني أنها مسفة جداً ) بشرط واحد هو أن يكون الإسناد بحسب القاعدة. والامتياز النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذه المشكلات)).
(( ونوضح هذه الخصوصية لنقد الحديث عند المسلمين بذكر مثال مأخوذ من حقل تطبيقه نفسه، فيوجد بين الفئات العديدة من الأحاديث المغرضة فئة نستطيع أن نسميها فئة (( أحاديث المذهب))، وهذه الأحاديث هي الأحاديث المختلقة في داخل نزعة مذهب علمي التي يقصد بها البرهنة على تفوق هذا المذهب في مقابل نزعة منافسة وأن يخلع شيئاً من الثقل والقوة على آرائها المذهبية. ولم تنتحل الأحاديث المغرضة بعدد كبير ضد البدع الاعتقادية فقط، بل إن الواضعين كانوا يدخلون النبي نفسه كحكم أعلى في الخلاف الذي يفصل بين علماء العراق وعلماء الحجاز، فللبرهنة على أن أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع تلامذته الحديث التالي: (( يكون في أمتي يوماً رجل يقال له أبو حنيفة وسيكون سراج الأمة )). وقد وجب أن يكون أبو هريرة الصحابي هو الصحابي الذي قد سمع هذا الحديث بشكل مباشر من فم النبي، ولم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلاً اسم العالم العراقي )).
انتهت الترجمة الحرفية لما قاله بورشيه مستخلصاً عن جولد تسيهر استاذ المستشرقين المتحاملين على الإسلام.
وقد كنت أتساءل عن المنهج الذي يريد هؤلاء الناس أن نأخذه عنهم كي نحسن نقد الروايات حتى عثرت عليه ظاهراً جلياً في مناقشاتهم لأهل الحديث، وظهر أوضح ما يكون في هذه الكلمة التي يتحدث فيها عن مثال تطبيقي من علم الحديث، فإذا منهجهم المنتظر منهج متهافت يقوم على التسرع في الحكم والمجازفة، بعيداً عن التحقيق والروية، حتى لقد أصاب هؤلاء الناقدون من أنفسهم المقاتل بطعنهم المفتعل في منهج المحدثين وتطبيقهم لقواعد الحديث.
-1 إن المحدثين قد ذكروا ان من دلائل الوضع في الحديث مخالفة للوقائع الحسية المشاهدة، أو للتاريخ، وذلك أمر مفروغ منه في كتب المصطلح، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد في كتب الأحاديث الموضوعة.
وهذه واقعة لطيفة لها دلالتها الهامة جرت مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي سنة 447، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: (( أظهر بعض اليهود كتاباً باسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الجزية عن الخيابرة -يعني يهود خيبر-، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر؟ فقال: هذا مزَوَّر قيل: من أين قلت هذا؟، قال: (( فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنتين )). فاستحسن الوزير ذلك منه ولم يقبل منهم ما في هذا الكتاب(1).
فهذا الناقد المسلم لا يتردد لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المزورة التي أسندها النبي صلى الله عليه وسلم أساتذة الإفك في العالم، وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد تسيهر من قبلُ هديةً إليه تعبيراً عن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين. ولا ندري إذا كان تسيهر وأمثاله لا يزالون بعد هذا يقولون: (( الناقد المسلم يبقى بارداً أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعية ذات النوع الأكثر عامية )). إذن فما الذي يمكن أن يعتبر موقفاً حامياً إلا ما يجب أن يراه على أيدي أحفاد البخاري ومسلم، وابن الصلاح والنووي، والعراقي والعسقلاني، في الأرض المقدسة، ولن يكون ذلك بعيداً بإذن الله تعالى.
-2 زعم أن الامتياز النبوي أي ادعاء كون الخبر المغيب أو الخارق للعادة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وسيلة للتغلب على التناقضات التاريخية في الأحاديث.
وهذا القول منه غاية في المكابرة والبعد عن الحق، حيث أحال المعجزات وإنباء النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب إلى اختلاق الرواة عوضاً من أن يجعله هذا الإعجاز يعيد النظر في موقفه، كما فعل بعض المستشرقين حيث اعتنق الإسلام حين انزاحت عن بصائرهم غشاوة التعصب.
___________________
(1) التذكرة: 1141، انظر طبقات الشافعية الكبرى: 4: 35، والاعلان بالتوبيخ للسخاوي: 10، والخطيب البغدادي للدكتور يوسف العش: 235.
والحقيقة أن أنباء الغيب المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة الثابتة كثيرة تفوق درجة التواتر في جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة في ظهور المسيح الدجال اليهودي وفي نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مما لا يسع أحداً إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه.
وإذا كانت أنباء الغيب لا تقبل في زعم تسيهر فلا ندري لماذا يتعب نفسه في الطعن على الإسلام واصطناع البحث العلمي من أجل ذلك هو إنما يفعل ذلك لتشكيك المسلمين وتشتيتهم تمهيداً لتحقيق النبوءة المزعومة عن أرض الميعاد!!.
على أن المسلمين لم يتلقوا أحاديث الخوارق وأنباء الغيب جزافا من غير تمييز، بل محصوها وفحصوها فحصاً دقيقاً ميزوا به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، وها هي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم الأمويين وفي مدحهم وفي التنبيء ببعض الوقائع لهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالأحاديث الموضوعة والتحذير منها، وها هي ذي أيضاً الأحاديث الساقطة في فضل العباس وفي التنبيء بدولة العباسيين والأحاديث فيهم مدحاً أو غير ذلك قد جمعت في كتب الموضاعات والضعيفات التالفة للتحذير منها.
أرأيت لو كان المحدثون يودون إثبات المعجزات ولو بالتلفيق أفما كانوا يختارون من هذه الأحاديث ما فيه إنباء عن واقع مجرد بعيد عن المدح أو الذم على الأقل؟! فما لنا لا نجد لهذه الروايات ظلاً في كتب السنة المعتمدة؟! ولماذا نجد كتب الموضوعات تحذر من جملة كبيرة من أحاديث المعجزات والخوارق...؟!
-3 إن الحديث الذي أورده على " أنه مأخوذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه" لهو نفسه برهان عظيم يثبت دقة نظر المحدثين، فانهم قد وسموا بالكذب رواية مأمون بن أحمد السلمي الهروي منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه، وكان منهم آنذاك عَصْرِيُّه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله، كما نقل عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال.
وقد كنت فيما خلا من الزمن أتساءل عن هؤلاء الناقدين أن يكونوا اطلعوا في كتب الأحاديث الموضوعة والتالفة على بعض تلك الأحاديث التي يتذرعون بها فحسبوا بما أوتوا من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر السنة النبوية؟! فقد- والله- وجدت ذلك واقعاً بهم أفحش وضع وأبينه سقوطاً حيث مخرقوا على العالم بحديث موضوع كذبه المحدثون ونفوه منذ اللحظة الأولى لصدوره من آفكه!.
-4 قوله: "ولم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلاً اسم العالم العراقي ".
هذا قول مناقض للحقيقة وللواقع تماماً، حيث إن هذا الحديث قد استْتُنْكِر هو وأضرابه غاية الاستنكار من قبل العلماء كلهم ومن قبل العامة على حد سواء، حتى سقط رواية نفسه ولم يعد يسمع منه. أحد، وقد قال الحاكم في المدخل بعد أن أورد هذا الحديث: " ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنها موضوعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم _".
فهل يصدق بعد هذا من زعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول حتى إن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد " لم يجهدوا مطلقاً في أن يجعلوا الناس يصدقونه"، أو أن الواقع هو عكس ذلك وأن الأمة جميعها قد رفضت هذا الحديث رفضاً باتاً قاطعاً منذ الوهلة الأولى لصدوره عن مزوره كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرأت منها.
-5 إن هذا الحديث من أشهر الأحاديث الموضوعة، لكثرة ما نبه عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم الحديثية المشتهرة المتداولة بين الخاصة والعامة من كتب الموضوعات وكتب مصطلح الحديث وكتب الرجال:
-1ذكره ابن حِبَان ( 354هـ) في كتابه الضعفاء وحذر منه كما ذكر الذهبي في الميزان.
-2وذكره الحاكم ( 405هـ) في المدخل إلى كتاب الاكليل.
-3وذكره محمد بن طاهر المقدسي ( 507هـ) في تذكرة الموضوعات: 144.
-4وذكره الإمام عبد الرحمن بن الجوزي ( 597هـ) في الموضوعات الكبرى:2: 47-49
وقال: "حديث موضوع لعن الله واضعه".
-5 والذهبي (748هـ) في ميزان الاعتدال.
-6 والحافظ ابن حجر ( 852هـ) في لسان الميزان ج5 ص 8.
-7 والسخاوي ( 902هـ) في فتح المغيث: 114.
-8و9- والسيوطي ( 911هـ) في تدريب الراوي : 181، والآليء المصنوعة: 1: 457.
-10والحافظ ابن عراق ( 963هـ) في تنزيه الشريعة : 2: 30.
-11و12- والشيخ علي القاري في شرح شرح النخبة: 128، والموضعات الكبرى: 76، وقال: "موضوع باتفاق المحدثين".
-13 والشوكاني في الفوائد المجموعة: 420.
-14 والأبياري في حاشيته نيل الأماني: 53.
-15والعلامة حسين خاطر في لقط الدرر: 73.
هذه خمسة عشر مرجعاً في أعصر متتالية منذ عصر الراوي الوضاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة: حقل القواعد كالمدخل وتدريب الرواي، وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كالميزان وغيره من كتب الرجال، وكتب الموضوعات مثل كتاب ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق، كل المصادر في شتى الحقول توضح كذب هذا الحديث وتفضح إفكه، وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يدين المحدثين من حقل تطبيقهم بأنهم يسيرون الأحاديث الموضوعات أو أنها تنطلي عليهم، على حين أنهم سيروا في الناس وأذاعوا في كل عصر ومصر في كل زمان ومكان التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك هذا الحديث نفسه الذي استشهد به الطاعن، حيث توالي المحدثون على التحذير منه في المصنفات المشهورة المتدوالة على مر العصور وكر الدهور. فهل لمنصف بعد ذلك أن يقبل شيئاً من أمثال هذا المستشرق، أو يعول على دعواهم التجرد والموضوعية..؟!.
من مآخذنا على المستشرقين:
لقد اسفرت المناقشة العلمية الموضوعية لمن انتقد المحدثين عن فشلهم في مطاعنهم التي وجهت إلى منهج المحدثين النقدي، بل إنها زادته قوة وثباتاً، على حين كشفت أهداف الطاعنين وزيف بهارجهم المصطنعة،وكشفت اختلال منهجهم العلمي من وجوه كثيرة نلخص منها ههنا:
-1 وضع النصوص في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها.
-2 اعتمادهم على نصوص مفردة متقطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه، وذلك كثير في أبحاثهم. ومنه استدلال تسيهر على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن الثالث بما ورد عن الإمام أحمد أنه قال في سعيد بن أبي عَرُوبَة ( 156هـ): (( هو أول من صنف الأبواب بالبصرة... لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله:"لم يكن له كتاب" على أنه لم يؤلف كتاباً )). مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث. وهذا لا يدل على أن المحدث لم يصنف كتاباً من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك كثيرة في ترجمة سعيد من كتب الرجال.
-3 أنهم يعولون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب "الأغاني" لأبي
الفرج الأصبهاني، وهو ليس كتاباً علمياً، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات، ثم هو صاحب بدعة تحمله على الطعن في أئمة الإسلام، ومع ذلك فلم يبال ناقد منهج المحدثين أن يستشهد به في الحط من قدر إمام جليل، كالإمام مالك بن أنس.
-4أنهم يوردون مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدمات ولا تنتج منها.
ونتخذ هنا حديث الهروي المختلق في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة مثالاً لذلك.
هذا الحديث زعم الناقد أنه درج في الناس وغفل المحدثون عنه، بينما هو أشهر في بيان وضعه من نار على عَلم. ولو فرضنا أن باحثاً وجد حديثاً ضعيفاً جاز على بعض المحدثين فهل يدل ذلك على فضل منهج النقد من أساسه؟ كلا! فإن القانون كثيراً ما يكون سليماً ثم تأتي الآفة من تصرف بعض العاملين به أو من ذهوله. فهذا لو تحقق إنما يكون سهواً من المحدث الذي جاز عليه الحديث، وأي علم في الدنيا لم يتعرض عالم من علمائه للنقد في بعض بحثه، ثم لم يكن ذلك مسقطاً لذلك العلم ولا لذلك العالم ولا لذلك العالم، إلا إذا كثر منه ذلك فانه تكون أخطاؤه محسوبة عليه تضعف الثقة به، ويبقى بنيان العلم شامخاً.
-5 إغفال الحقائق التي تخالف استنتاجاتهم وتبطلها. ومن ذلك أن جولد تسيهر حكم بالوضع على الرواية الصحيحة: " أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قال تسيهر: (( إن هذا الخبر بعينه فيه نظر، فلم يرو عن مالك إلا في رواية واحدة من روايات الموطأ هي رواية الشيباني، وقد تلقف هذا الخبر الواحد علماء الحديث المتأخرون فكان منطلقاً لهم، ورَوَّجوا له، وهذا الخبر ليس إلا تعبيراً عن الرأي الحسن السائد حول الخليفة الورع وحبه للسنة)) (1).
قال الأستاذ فواد سيزكين يتعقب ذلك (2):
(( ولكن لا يجوز لنا أن نبادر فنزعم أن هذا الخبر الذي ورد في الموطأ برواية الشيباني تلميذ مالك لا يعكس إلا حسن رأي المتأخرين [ في عمر ]، فليست كل روايات الموطأ بين أيدينا فنحكم بعدم ورود هذا الخبر إلا في رواية واحدة، وفوق هذا فجولد تسيهر يعلم أن هذا الخبر وارد كذلك في سنن الدرامي هذا وقد ذكره كل من ابن سعد والبخاري!!)) . اهـ.
على أنه لو سلم لتسيهر دعواه أن التفرد بالشيء يبطله فإنه يؤدي إلى بطلان أمور كثيرة أتى بها في كتبه وأبحاثه هي لباب مقاصده فيها، فهل يقبل أن ينسحب حكمه هذا عليه؟!.
__________________________
جولد تسيهر. GOLDZIHEL , MUP, STUD. 11, 211
في كتاب تاريخ التراث العربي:1 : 1: 226.
-6 يقول الأستاذ فؤاد سيزكين: "هذا ونرى لزاماً علينا أن ننه إلى أن جولد تسيهر لم يدرس كتب علم أصول الحديث دراسة شاملة رغم أنه عرف قسماً منها كان ما يزال مخطوطاً في ذلك الوقت. وفوق هذا فيبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها، ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناه الحقيقي اختلافاً أساسياً(1).
ويقول سيزكين أيضاَ: "أن جولد تسيهر على تضلعه في اللغة العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث وضرب بهذا منذ البداية في اتجاه خاطىء" (2).
ونحن لا نتعرض لواقع الخطأ في فهم النصوص أو في الأخذ المقتطع للنص عما يكمله أو النقل المحرف، ولا نود الخوض في اسباب ذلك ودوافعه، لكن نجد أنه لزام علينا إزاء ذلك أن نصرح بأن هذا الواقع يجعلنا عاجزين عجزاً تاماً كاملاً عن الاعتماد على شيء من نظريات المستشرقين وأبحاثهم هم وأتباعهم الذين يعتمدون عليهم.
ونسجل في النهاية هذه النتائج العامة في هذا العلم العظيم:
-1 أهمية الهدف الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله.
-2 أن الأمة الإسلامية قد عُنِيَت بتحقيق هذا الهدف منذ أول عهدها بالرواية، وأهم قوانين الرواية التي اتبعوها.
-3 أن القواعد العلوم الحديث، قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة، وإن كانت في مصادر هذا العلم مفرقة فيما يبدو.
-4 إن قواعد علوم الحديث ترتبط في مجموعها برباط وحدة الهدف ارتباطاً يشكل منها نظرية نقدية ومنهجاً علمياً كاملاً، يقوم على أساس بَدَهي مُسلَّم به تتفرع عنه أصول البحث النقدي.
وإذا كان السابقون لم يقوموا بمثل تلك الصياغة في تآليفهم فان تعليقاتهم على فوائد كل نوع من هذا العلم وعلى قواعده التي أوضحناها في مواطنها توضح تعلقهم بها ووضوح أساسها لديهم، وقد جاء كتابنا هذا يعبر عن هذا المنهج النقدي المتكامل الشامل تعبيراً نرجو أن يكون قوياً واضحاً موفقاً بفضله تعالى.
_________________
المرجع السابق.
المرجع السابق: 225.
-5 أن جهود المحدثين في حقل تطبيق هذا المنهج النقدي العظيم قد بلغت الغاية في الوصول إلى الهدف المنشود، وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث، ما اختص منها بالصحيح، وما جمع إليه الضعيف، أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج،.. هذه التصانيف برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدّوْا إلينا تراث النبوة صافياً نقياً.
ولقد كان حقاً ما شهد به العلماء من تحقيق هذا الغرض العظيم. فقال عبد الله بن المبارك حين سئل: هذه الأحاديث الموضوعية؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنا له لحافظون"..
وكان حقاً ما قال ابن خزيمة: (( ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم )). وقال أيضاً : (( حياة أبي حامد بن الشرقي تحجب بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
وقال الدارقطني: (( يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحداً يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي)).
ورحم الله الإمام الثوري حيث قال: (( الملائكة حراس السماء، ,اصحاب الحديث حراس الأرض )).
أجل والله، ولنعم الحراس الأمناء كانوا، تحقق بهم الوعد الالهي بحفظ هذه الملة، وجرت على أيديهم هذه المكرمة التي اختص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة. رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم، وسلك بنا من محض فضله سبيلهم.
وأخيراً، لا بد أن أشيد بالشكر لمن كرر عليَ الطلب وأكد من إخواني الكرام أن أكتب في هذا الفن الجليل، ذاكراً أثره في توجيه همتي لصياغة أفكاري وخطتي في هذا الكتاب أرجو الله تبارك وتعالى أن يمن بقبوله، وأن لا يخيب من أحسن بي ظنه، وأن يفر لي وله.
وأحمد الله تعالت صفاته، وتباركت أسماؤه، وأثني عليه كما هو أهله، وأسأله المزيد من فيض فضله، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كل
صحبه وسلم تسليماً