الاثنين 10/12/1421 هـ الموافق 05/03/2001م
خطبة عيد الأضحى المبارك 1421
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر ما ازدحم الحجيج على مائدة الرحمن في عرفات، الله أكبر ما هُرِعوا إلى منى، وواصلوا سيرهم بعد ذلك. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ما هرع الحجيج إلى مزدلفة، والتقوا عند المشعر الحرام؛ فاتجهوا إلى الله بالدعاء والبكاء. الله أكبر ما طاف الطائفون بيت الله الحرام، وسعى السّاعون. الله أكبر ما تجلى الله سبحانه وتعالى عليهم بالرحمة والرضوان؛ فتاب عليهم وغفر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. الله أكبر من معصية كل عاصٍ يبكي على معصيته وإسرافه في جنب الله. الله أكبر من طغيان كل طاغٍ نسي جبروت الله سبحانه وتعالى ومقته. الله أكبر من كل المصائب التي تطوف بالعالم الإسلامي اليوم، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. سبحان الله ملئ الميزان، سبحان الله المسبّح في كل مكان، سبحان من تنطق الكائنات كلها بتسبيحه، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ} [الإسراء: 17/44] سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، والحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
ما أشبه صبيحة هذا اليوم الأغر عندما يتلاقى المسلمون تحت مظلة التجليات الإلهية الراحمة، عندما يتلاقون بالبسمات، وعندما يتلاقون بالأنس المتبادل فيما بينهم، ما أشبه هذا العالم الإسلامي في صبيحة هذا اليوم؛ إذ يتجلى على هذا النحو الذي أقول بسفح مُمرِعٍ أخضر، تفتّحت في أرجائه في صبيحة هذا اليوم مختلف أنواع الزهور والورود، أجل لا أرى مثالاً للعالم الإسلامي متمثلاً في وجوه المسلمين، إذ يتبادلون التهنئة القلبية وإذ تعلو البسمات ومظاهر الأنس فيما بينهم، لا أجد مثالاً لذلك إلا هذا الذي أقول، هذه الزهور المتفتحة، هذه الورود العبقة، إنما تفتحت وازدهت ألوانها وانتشر عبقها بسرٍّ من تجليات الله سبحانه وتعالى، في هذه الصبيحة على عباده. وإنه لتجلٍ يحمل معه رسالةً بل بشارة عظيمة ما مثلها بشارة، إنها بشارة تترجمها رحمة الله عز وجل لعباده، إنها بشارة تذكّر بقول الله عز وجل: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 39/53].
وعندما يشع هذا المعنى بين جوانح المسلمين ويتمثلون هذا التجلي الذي أذكركم به؛ ينبغي أن يتساءلوا من أين شعّت هذه المحبة متجددةً في صبيحة هذا اليوم، وسارية ما بين القلوب؟ من أين شعّ هذا الأنس متجدداً مع فجر هذا اليوم؟ من أين تجلّت متجددةً مظاهر الرحمة والشفقة ما بين الآباء والأمهات من جانب، وصغارهم من جانب آخر؟ بل من أين جاءت مشاعر الفرحة الراقصة، في نفوس هؤلاء الصغار؟ من أين جاء ذلك كله أيها الإخوة؟
إنما هبط هذا كله من علياء الربوبية، إنها هدية الله الرؤوف الرحيم الكريم، هدية الله سبحانه وتعالى إلى عباده.
ولو أن الإنسان تصور هذا المعنى لفاض قلبه بالحب الأول، لفاض قلبه بمعين الحب متجهاً إلى الله سبحانه وتعالى وحده، الحب الذي يشعر به الإنسان تجاه أخيه الإنسان، من أين جاء أيها الإخوة؟ من الذي ألهب المشاعر والقلوب بما نسميه الحب؟ إنه الله عز وجل. من الذي أودع في أفئدة الأمهات الحنان الذي يفيض في قلوبهن تجاه صغارهن؟ إنه الله عز وجل. من الذي أودع في قلوب الآباء هذا المعنى من العطف والشفقة والحب تجاه أولادهم؟ إنه الله. من الذي وصل القلب بالقلب في حياة الزوجين بالمودة والألفة والرحمة والحب؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
ألم تقفوا على قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30/21].
جعل بينكم مودة ورحمة، هذه المودة جاءت من المعين من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الرحمة كذلك. ألم تقفوا على قول الله سبحانه وتعالى - وهو يتحدث عن سيدنا يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام - مخاطباً زكريا، يقول: {وَحَناناً مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيّاً} [مريم: 19/13]، وهبه الله عز وجل حناناً بين جوانحه وفي حنايا قلبه، لكن انظروا إلى قوله: {وَحَناناً مِنْ لَدُنّا} ما من حنان يشعر به الإنسان تجاه أخيه الإنسان إلا ومصدره الرحيم الأول ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
وعندما تنظر إلى عالم البهائم، وتنظر إلى عالم البهائم، وتنظر إلى الوداد الذي يشيع ويشع، ما بين هذه البهائم وصغارها، وكم ينظر الإنسان فيجد ما يدهش العقل، وما يبهر البصائر. عندما تنظر إلى هذه الظاهرة؛ اذكر أن الذي أودع هذه المشاعر في قلب هذه الحيوانات أجمع، إنما هو الله، إذن مصدر الحب هو الله، مصدر الحنان هو الله، مصدر تراحم الناس بعضهم مع بعض هو الله، مصدر هذا الأنس إذ يتجلى على قلوب الناس في مثل هذا الصباح، ومنظر هذه الإشراقة والابتسامة، إذ يحيِّي بها كل مسلم أخاه هو الله سبحانه وتعالى، فإذا عرف الإنسان هذه الحقيقة أيها الإخوة، هل يمكن أن ينسى خالقه؟ هل يمكن أن يكون فؤاده بعيداً ومعرضاً عن محبة مولاه وخالقه الذي هذا هو شأنه؟ هل يمكن أن لايكون قلبه وعاءً لحب واحد لا ثاني له ألا وهو الله سبحانه وتعالى؟ هذا الإله الذي وجّه القلوب إلى القلوب بشعاع المحبة والود، هذا الإله الذي أودع في الأفئدة ما نسميه الرقة، ما نسميه الحنان، ما نسميه الألفة والوداد، هذا الإله الذي أغدق على عباده النعم من سماءٍ تهطل رزقه ومن أرض تينع رزقه، ومن بهائم سخرها الله سبحانه وتعالى لك ضروعاً ألباناً ولحوماً، كيف يعرض الإنسان عنه فلا يعشقه، ولا يهواه؟
أيها الإخوة! عندما يقرأ المؤمن قول الله عز وجل: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 5/54] لابد أن يشعر بمشاعر غريبة، قد تكون، لكنها ليست غريبة عن العبد الموصول بربه، عن المؤمن الموقن بمولاه وخالقه، إن من هذه المشاعر مشاعر الغيرة، أجل، أنا أغار من هؤلاء الذين يمكن أن يعرض الله عز وجل عني وعن أمثالي، بسبب الابتعاد عن صراطه، بسبب التبرم بشرعته ثم أنظر فأجد، أن هذا الحب قد غدا كسوةً لآخرين، أنظر فأجد أن تجليات الحب الإلهي قد اتجهت إلى أناس آخرين، أجل والله، إنني لأشعر بالغيرة، وما من مؤمن إلا ويسأل الله عز وجل قائلاُ: يارب، لاتخرجني من حمى دينك، ولا تعاقبني بإبعاد خلعتك الإيمانية التي أكرمتني بها عني، وأبقٍ عليَّ نعمة حبك لي، اجعلني من هؤلاء الذين تقول عنهم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وقد قلت مرة: في القرآن غزل، لكنه غزلٌ يذيب القلوب، إنه قول الله عز وجل: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ألا تشعرون؟ ألا ترون هذا المعنى العظيم الجليل أيها الإخوة؟{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} هذا المعنى المتبادل بين العبد والرب، ما أحلاه وما ألطفه! وما أبعثه لِسُكْرِ النشوة بمحبة الله سبحانه وتعالى! وما عجبت من أناس عجبي لقوم يصرون على أن يؤولوا كلمات الحب التي ينسبها الله عز وجل إلى ذاته لعباده، يحرمون أنفسهم ويحرمون إخوانهم من خلعة أكرمنا الله عز وجل بها، يقول قائلهم: لا... لا، لايتأتى من الله أن يحب عباده، إنما هو الرضا. هذا هو التعطيل الذي نبرأ إلى الله عز وجل منه، الرب عز وجل وصفه ذاته العلية بالرضا، قال: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} هذا شيء، ونسب أيضاً إلى ذاته إلى جانب الرضا الحب، حب عباده المؤمنين، حبه لعباده المؤمنين، فلماذا ينسخون وصفاً بوصف، كلاهما موجود ولكل منهما معناه المستقل بذاته، ولكنه حبٌ يتسامى عن معاني حب الناس بعضهم لبعض، أجل.
فإذا أدركنا أنّ كل ما في هذه الحياة الدنيا من معاني الحب الذي به قام المجتمع الإنساني، وبه تحقق نسيج الحياة البشرية، عندما نعلم، أن مصدر هذا الحب إنما هو الله، ينبغي أن نعود إلى أفئدتنا، فنجعلها تربة صالحة لشيء واحد ألا وهو محبة الله عز وجل، فإذا ازدهرت محبة الله عز وجل بين الجوانح وسبيل ذلك واضح وسهل ويسير إذا تيسر ذلك، وازدهرت محبة الله عز وجل بين الجوانح فإن الله يجعل منها شجرة عظيمة وارفة الظلال، أما جذعها فواحد يتمثل بحب العبد لمولاه فقط، وأما أغصانها المتفرعة عن هذا الجذع فهي أغصان كثيرة لاتتناهى، تتمثل في حب الإنسان لأخيه الإنسان، في حب الأبوين لأولادهما، في حب الأولاد للأبوين، في حب الزوج للزوجة والعكس، في حب الناس كلهم بعضهم لبعض في تلاقي أفراد الأسرة الإنسانية على مائدة الألفة والوداد والمحبة، كل ذلك أغصان من محبة جزئية تضرعت وتفجرت وتنامت من جذع واحد، ألا وهو حب العبد لله سبحانه وتعالى، عودوا أيها الإخوة إلى أفئدتكم وتعهدوا - ولا أقول أوجدوا - تعهدوا محبتكم لله عز وجل في هذه القلوب لا أقول أوجدوا، لأنه ما من إنسان عرف الله إلا وفي قلبه بذور يانعة من حبه لله سبحانه وتعالى، فإن عزّ عليكم السبيل إلى استنبات هذه البذور، وإن عزّ عليكم السبيل إلى تنيمة هذه الشجرة بين الجوانح فاطرقوا باب الله، التجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى، ابسطوا إليه أكف الضراعة أن يطهر قلوبكم من محبة الأغيار، أن يطهر مرآة أفئدتكم مما علق بها من غبار الدنيا الزائلة، والأهواء الباطلة والله عز وجل يستجيب، إذا أقبل إليه العبد قال له الرب لبيك، إذا أقبل إليه إقبالاً صحيحاً فإن الله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه.
وأقول لكل من يشعر أن في قلبه قسوة يعاني من مرض قلبي بسببها. أقول ما يقوله الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (إذا لم تكن تشعر برقة قلب تسوقك بالضراعة إلى باب الله؛ فابكِ على نفسك بسبب أنك قد اكتشفت مرضاً خطيراً بين جوانحك ألا وهو مرض قسوة القلب) عندما يشعر الإنسان بهذا الخطر الكبير الوبيل، عندما يشعر أن قلبه مغلف بغلاف القسوة؛ فقد عرف أنه مريض، واكتشف مرضاً وبيلاً بين جوانحه، ماذا يكون حال المريض إذاً من كلام طبيبه وهمساته مع زميله أنه يعاني من مرض خطير، ألا يتألم؟ ألا يشعر بالأسى يهيمن على كيانه، كذلكم، ذلك الذي يشعر بأنه يعاني من قسوة القلب، إنه مرض، فالتجئ إلى الله عز وجل متألماً متضرعاً كي ينجيك من قسوة قلبك، فإذا فعلت فإن الله سبحانه وتعالى يكرمك، يزيل هذا الغلاف الذي ران على قلبك ويتألق فؤادك بتجلٍ رباني، ملؤه الرحمة، ملؤه المغفرة، يتألق قلبك برقة ما مثلها رقة، لكن هل التجأت إلى الله عز وجل؟
أيها الإخوة، من أهم الأدواء والأمراض التي تنتاب عالمنا الإسلامي اليوم، لاسيما النخبة الأولى فيه من الدعاة والحركيين والمتجهين بأنشطتهم إلى إقامة المجتمع الإسلامي، من أخطر الأمراض التي يعانون منها مرض اسمه قسوة القلب، مرض اسمه الإعراض عن الالتجاء إلى الله عز وجل، ننشط ونتحرك ونذهب ونأتي ونكتب ونقول ونزبد ونرغي ونلقي المحاضرات، ولكني قلما أجد من يتجه إلى الدواء الأول، وهو أن يقف بانكسار وقد بسط كفيه شحّاذاً واقفاً أمام باب الله الغني الكريم المجيب، يدعوه بضراعه، يدعوه بتبتل، كما أمر الله سبحانه وتعالى رسوله، ويدوم على هذه الحال، ويجعل من ذلك غذاء قلبه، ويجعل من ذلك سلاح دعوته، لم أجد ولا أجد هذه الظاهرة إلا في القليل النادر النادر.
والإسلام عبودية قبل أن يكون شرعة واجتماعاً، بوابة السير إلى الله تبدأ بالعبودية لله عز وجل، ولا معنى للعبودية إلا الضراعة، لا معنى للعبودية بين يدي الله إلا الانكسار لله سبحانه وتعالى، وما جعل الله الإنسان محتاجاً إليه، بسبب انحرافاته التي ابتلي بها، بسبب غفلاته التي ابتلاه الله بها، بسبب تسلط غرائزه عليه، تلك التي ابتلاه الله عز وجل بها، ما جعله الله ضعيفاً بين هذه السباع الضارية إلا ليلجأ إلى الله، إلا ليشعر أنه بحاجة إلى الله، إلا ليشعر أنه الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، فأين هم الذين مدوا من مشاعر فقرهم شفيعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى لأنفسهم؟ أسأل الله عز وجل أن يطهر قلوبنا من محبة الأغيار، وأن يملأها بمحبته سبحانه وتعالى، وأن يجعل من هذه المحبة شجرة وارفة الظلال تمتد أغصانها حباً بين عباد الله المؤمنين، وداً فيما بينهم، وحدةً تحت مظلة قول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 3/103] تحت مظلة قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 49/10].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.