الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الإخوة الأكارم ، سورة اليوم هي سورة العصر ؛ نقرأ سورة العصر في الصلاة ، سورة قصيرة تمرُّ على الألسنة يكثر ذكرها و تكثر قراءتها وسماعها ؛ وما تنطوي هذه السورة من الخطورة من المعاني بحيث لو عقلناها وفهمناها و عرفنا أبعادها لانقلبت حياتُنا رأسًا على عقبٍ .
يقول الله سبحانه وتعالى : والعصر؛ يقسم بالعصر ؛ وما العصرُ ؟ قال بعض العلماء : هو عصر النبي عليه الصلاة والسلام ؛ بل قال بعضهم : إنه عصر النبي بمعنى عمره ، هذا العمر الثمين ؛ ثلاث وستون عاماً كان من نتائجها أنها قلبت وجه البشرية ؛ نقلت البشرية من الشَّقاء إلى السعادة و من الضَّلال إلى الهدى و من الرذائل إلى الفضائل ، من الظُّلمات إلى النور ، من الحضيض إلى الدرجات العُلى ، عمُرٌ ثمين، فإذا قاس الإنسانُ عمرَه بعمر النبي ، ماذا فعل ؟ اشترى بيتًا ، واستلم محلاًّ تجاريًّا ، ثم توظف ، ولكن لو قِستَ إنجازاتك التي فعلتَها أو حقَّقتها بما فعل النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العمر الثمين لاحتقر كلٌّ منا عملَه، فالبشرية جمعاء هدايتها في صحيفة النبي عليه الصلاة والسلام ، أرسله للناس كافَّة لا يكُنْ الإنسان خمولاً بل يجب أن يكون طموحاً ، لا يكن قنوعًا في الدنيا بدخلٍ يسير وبيت واسع و زوجة تَرُوقُ له ، سيدنا عمر رضي الله عنه أدخل شاعراً السجنَ لأنه هجا رجلاً وقال له :
دع المكارمَ لا ترحل لبُغيَتها واقعُدْ فإنك أنت الطعم الكاسي
دخل صاحب هذا البيت السجنَ لأنه أهجى بيتٍ قالتهُ العربُ فأما الآن فيُعَدُّ شعار كلِّ إنسان ، إذا حقَّق الإنسان دخلاً يسيراً و بيتاً مُريحاً و مركباً وطيئاً و محلاًّ تجاريًّا رائجاً فعلى الدنيا السَّلام ، فإذا جاء ملَكُ الموت يُقال له : ماذا فعلتَ في الدنيا ؟ ماذا فعلتَ من أجلي ؟ هل واليتَ فيَّ وليًّا ؟ وهل عاديتَ فيَّ عدوًّا ؟ لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عرف كيف يستغلُّ العصر ، كيف يستغلُّ حياته و كل وقت من أوقاته وكل ساعة من ساعاته ، كل دقيقة من دقائقه ، لذلك العمر الثمين أثمر هدًى وصلاحًا للبشرية جمعاء ، المعنى الآخر من معاني العصر، يعني لو دقَّقتَ في هذه الحياة لوجدتَ أن أثمن شيء هو الزمن ، لو قلنا أن إنساناً ما، أو زيدًا من الناس سيعيش أربعاً وسبعين عاماً ، اضرِبْ هذه الأعوام في الأيام واضربها بالساعات واضربها بالدقائق يصبح معك رقمٌ كبير ، هذا هو عمر الإنسان ؛ لو يعلم الإنسانُ أنَّ كل دقيقة من حياته إذا ذكر الله فيها ارتقى عند الله في جنة عرضها السموات و الأرض وإلى أبد الآبدين ، لذلك فإن أشدَّ أنواع الحسرات يوم القيامة ساعةٌ مضت هدرًا لا جدوى منها، فانظر إلى حياتنا كيف نقضيها سهرةٌ إلى الساعة الواحدة في كلام فارغ ، لا أمرٌ بمعروف ولا نهيٌ عن منكر و لا تذكير بالله ولا فهم لكتاب الله ولا فهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث فارغ لا طعم له ولا جدوى منه و لا فائدة منه هذه الساعات الخمس كيف أمْضَيْتها ؟ وهذا الشهر كيف أمْضَيْتَهُ ؟ هذا اليوم كيف أمْضَيْتَهُ ؟ وهذا العمر كيف أمْضَيْتَهُ ؟ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ *
[ رواه الترمذي ]
بعضهم قال : ما مضى فات والمُؤَمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ماذا تَمْلِكُ أنت ؟ لا تمْلِكُ إلا شيئاً واحِداً ، هذه الساعة التي أنت فيها ، الذي مضى مضى ؛ إنْ خيراً فَخَيْر ، وإنْ شراًّ فَشَرًّا ، ضَيَّعْتَ الوقت أمْ لم تُضَيِّعْهُ ؛ الحديث عن الماضي تضْييعٌ للوَقْت ولا جَدْوى منه ؛ يا لَيْتني كنت مؤمناً ! مضى ، ويا لَيْتني قَدَّمْتُ لِحياتي ! مضى ، يا لَيْتَني عَرَفْتُ الله باكِراً ! مضى ، يا لَيْتَني أنْفَقْتُ من مالي ! ما مضى فات ، والمُؤَمَّلُ غيب سأفْعَلُ كذا ، من يدْري أَتَصِلُ لِهذا اليوم أو لا تصِل ؟ في أوَّل الصَّيْف سأَقْرأُ القرآن ، حينما أنْتَهي من الفَحْص سأَحْضُرُ مجالِسَ العِلْم ؛ هذا كلامٌ فارغ ، أنت لا تمْلكُ أنْ تصل لِهذا اليوم ، ولا يمْلِكُ هذا اليوم أن يصِلَ إليك لا تمْلِكُ ماذا يُفْعَلُ بك ولا بي ، ولك الساعة التي أنت فيها لا تمْلِكُ إلا هذه الساعة ، فإذا قُلْتُ لكم إنَّ أثمَنَ ما في الحياة الوقْتُ! لا أُبالِغ الإنسانُ بِضْعَةُ أيامٍ كلما انْقضى يومٌ انْقَضى جزْءٌ منه جَلَسْتَ لِتَقْرَأ قِصَّة ما فائِدَتُها ؟ القِصَصُ كلها موْضوعٌ واحد ؛ وصْفٌ للعلاقات البشَرِيَّة ، قد يكون هذا الوصْفُ مُبْتَذَلاً فَهِيَ القِصَصُ الرخيصة وقد يكون أدَبِيًّا ولكنَّ الفِكْرة لا تزيدُ عن علاقَةٍ تَمَّتْ بين شَخْصَيْن وانْتَهَتْ بِالوِفاق أو الفِراق ، ولكن لو قرأتَ آيَةً قُرْآنِيَّة ورأيْتَ ما فيها من سعادَةٍ وصِحَّة لِمَن طَبَّقَها ، ثمَّ طبَّقْتها سَعِدْتَ بها ، لو وَعَظْتَ إنْساناً بآيَةٍ فأَخَذَتْ منه مَأخَذاً بليغاً وانْطَلَقَ في تطْبيقِها لَسَعِدْتَ وأسْعَدْتَ ، لذلك ربنا عز وجل أقْسَمَ بالزَّمَن لأنَّ أخطر شيءٍ في حياتك هو الزمن ، فالله عز وجل خلقنا لِسَعادَةٍ أَبَدِيَّة ، هذه السعادة التي تبْدأ من يوم القِيامة وليس لها نِهاية فيها فُرْصَة أُعْطيتَها في الدنيا مجْموعة دقائِق وساعات وأيامٍ وأشْهُرٍ وسنواتٍ إذا عَرَفْتَ كيف تعرف الله فيها وكيف تسْتَقيمُ على أمْرِهِ وكيف تتقَرَّبُ منه كانت تلك الأيام والساعات والشهور زاداً لك إلى الأبد ، لذلك قبل أنْ تسْتَهْلِك الوقت اسْتِهْلاكاً رخيصاً ، قبل أنْ تسْتَهْلِكَ الساعات ، وقبل أنْ تقول سأَذْهَبُ معكم إلى هذه النُّزْهة هؤلاء من ؟ هل يُرْضيهِم الحديث عن الله عز وجل ؟ اِذْهَبْ معهم إذاً ، لا يُرْضيهم ذلك دَعْهُمْ ولا شأنَ لك بهم ، قبل أنْ تقول سآتي لأسْهر معكم هل هم من الذين يُحِبُّون الله ورسوله ، وهل يُرْضيهِم الحديث عن الله ؟ لا إذاً لا شأنَ لك بِهِم ، هذه الساعة ثمينة تَعَلَّم فيها آية ، اُدْعوا إلى الله ، كُنْ آمِراً بالمعْروف ناهِياً عن المنْكر قال تعالى :
وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)
[ العصر : الآية 1-3 ]